هنا أرض الخلافة! حسين المعاضيدي
hussein_small.jpg
الحلقة الثانية
هممنا بالإنطلاق نحو مدينة الأنبياء، الموصل الحدباء، بعد الإنتهاء من المرور في أول بوابة لدولة الخلافة الإسلامية، حيث تنفس الجميع الصّعداء، فمن كان الشك يساور خلده انفرجت أساريره، ومن كان بعض الخوف لايزال في فؤاده زال رانه، لكن ووسط تلك المشاعر، التي فوجئ بها ركاب سيارتنا الـ(كيا) من طريقة تعامل رجال الدولة الإسلامية مع الداخلين إلى مضارب خلافتهم، عاد السائق ليتوقف ثانية أمام شخص ذو لحية خفيفة سوداء، شابها بعض البياض، لا يرتدي لباس الدولة الإسلامية المسمى بـ (البزة القندهارية)، وكذلك لم يكن يحمل سلاحاً، بل كل ما كان معه ورقة وقلماً فقط، ظن ركاب السيارة، وأنا أولهم، أنه يتبع لنقطة التفتيش الخاصة بالدولة الإسلامية، بحكم قربه من نقطة التفتيش، لولا هيأته التي لا توحي بإنه منهم، قبل أن يتبين لاحقاً لنا إنه موظف في الدولة الإسلامية يتبع لمؤسسة جباية الضرائب الخاصة بمواقف وكراجات النقل الخاص..!
سألنا قبل أن يتحدث إلى السائق:
كم الإجرة، خرس الجميع، بينهم أنا، فقد اعتدنا أن نصمت في مثل هذه المواقف قبل زمن تحرير أراضينا من الشيعة والأكراد، حرصاً على السائق من العواقب، في حال طلب أجرة فوق التسعيرة المعتادة، تحت البند العاطفي (صاحب عيال)، وكإننا، ومن جهلنا، نظن أن من له عيالاً من حقه أن يستغل الآخرين، حتى ممن لديهم عيال، فاتحين بذلك لسائقي السيارات الأبواب على مصراعيها لإستغلالنا ببشاعة..!
أجاب السائق بنفسه على تساؤلات المسؤول عن كراج النقل:
تقاضيت منهم خمس وعشرون الف دينار..
فرد عليه موظف النقل في الدولة الإسلامية:
أخي، السؤال موجه إلى الإخوة الركاب، حفظك الله، وأريد ان أسمع التأكيد منهم، لا منك!
أجابه الجميع، وبصوت واحد، شاركنا به بذلك حتى النساء:
خمس وعشرون!
إجتمعنا بذلك على أمر الكلام دفعة واحدة، مثلما إجتمعنا على الصمت جميعنا بلا استثناء، وهي من الحالات النادرة التي يجتمع فيها أبناء السُنّة والجماعة على أمر واحد، في ظل تشرذمنا المقيت، وتفرقنا الذي يدمي القلوب!
كان السائق يحمل بيده خمسة آلاف دينار ليعطيها لموظف النقل الخاص، لكن الأخير أكد له أن قيمة الجباية هي عشرة آلاف دينار لخط الموصل، فراح السائق يحلف له بأغلظ الأيمان أنه اشترى السيارة حديثاً، وأن عليه تسديد فواتيرها شهرياً، وأن العشرة آلاف دينار هي مبلغ كبير وو..
رد عليه الموظف لدى الدولة الإسلامية أن التسعيرة موحدة وعامة، وبحسب الخطوط، وأنه لا يستطيع تخفيض السعر لأن تلك أموال المسلمين..!
إزداد السائق في تشكيه، فيما أصرّ الموظف على موقفه بإنها أموال مسلمين ويجب جبايتها، كاملة غير منقوصة، وإلا فإنه سيدفع نقصها من جيبه..!
أمام هذا الجدال أيقن الكل، أولهم أنا، أن موظف الدولة الإسلامية هو من سيمشي كلامه في نهاية المطاف، قبل أن نُصبح جميعنا في موقف لا نُحسد عليه، حينما تنازل الموظف عن موقفه، ولكن ليس بالتنازل عن أموال المسلمين، بل بالتأكيد له، مستخرجاً محفظته من جيبه، إنه سيدفع من جيبه بقية المبلغ، فأخرج الخمسة آلاف من محفظته ووضعها مع مبلغ الخمسة آلاف التي تقاضاها من السائق كجباية لضريبة النقل وقال له:
الله معك أخي.. ثم ابتعد عن الباب، إشارة منه للسائق بالإنطلاق!
وهنا توقف السائق عن الكلام لبرهة، وسط صمتنا جميعنا، وكلنا كان يراقب موقف السائق نفسه، وردة فعله، فما كان من السائق إلا أن قال له:
والله لن أرضاها لك، وهذه الخمسة آلاف الأخرى، وادعو لنا بسلامة الوصول..!
فتناول المبلغ موظف الدولة الإسلامية بعدما تبادلا إبتسامة الرضا على موقف كل منهما إتجاه الآخر!
ومع قول موظف الجباية التابع للدولة الإسلامية ودعائه لنا (انطلقوا برعاية الله وحفظه) انطلق بنا السائق في طريق لا أكاد اُبصر نهاية له من شدة إستقامته..
كانت خيوط الشمس حينذاك تغزل سمفونية المغيب الذي طالما افتقدته منذ سنين في بلاد لا تأتي فيها الشمس إلا في بعض أيام الصيف، حينما تغزوها كزائر خفيف الظل سرعان ما يغادر قبل أن يسعدنا صحبة بالجلوس..!
يا لمنظر الغروب الرائع الجميل الذي أشهده لأول مرة من أرض الخلافة الإسلامية.. لا أعرف أيهما أضاف للثاني سر ذلك الجمال، الخلافة وأرضها، أم الغروب ومنظره، ذلك التمازج المكاني الزماني جعلني استحضر تلك الأيام التي كنت أحرص فيها في صباي على زيارة ذلك المرتفع المطل على نهر الفرات، في مدينتي الفائقة الروعة والجمال (بروانة) لأشهد، وبشكل يومي، منظر مغيب الشمس من الجهة الأخرى، حيث يضيف نهر الفرات الذي يفصل بيننا لذلك المشهد السرمدي حلاوة وعذوبة وجمال أخاذ، لكن تلك الحلاوة والعذوبة والجمال وجدتها تذوب في ذلك المنظر الذي كانت ترقبه عيناي لعدة كيلومترات، وأنا أسير في أول طريق اسلكه بأرض الخلافة، فقضى ذلك المشهد على ما تبقى من ذكريات الصبا، بعدما خطفها وأنساني إياها بلا رحمة!
كانت فرحتي عارمة، ومن شدتها وددت لو إنني أنشد ما كنا نردده في زمن الطفولة في زفات الأعراس وفي السفرات المدرسية (يا سائقنة دوس دوس الله ينطيك العروس) في خطابٍ طفولي حينها لسائق السيارة بالإسراع أكثر لمسابقة بقية السيارات كي تكون سيارتنا في المقدمة لننال شرف التباهي بإننا نستقل السيارة الأفضل، ونمتلك السائق الأمهر، داعين له الله أن يرزقه العروس، حتى لو كان متزوجاً، إهزوجة سرعان ما تأتي اُكلها سريعاً، وسط حماسة وفرحة وإبتسامة السائق التي كنا نلحظها من مرآته الأمامية العاكسة، وهو يجتاز السيارات المتنافسة على السير خلف سيارة العريسين كسير الأفعى في الفلا..!
كان الشوق يحدوني للوصول إلى أرض الخلافة، فالوصول إلى الموصل كان بمثابة أمنية يخاطب صاحبها رب العزّة بالقول:
اللهم حقق لي أمنيتي، وبعدها أقبضني بسلام، وتلك كانت أمنيتي، الوصول إلى أرض الخلافة و(موصلها)، وبعدها ليقبض الله روحي بسلام!
سارت بنا السيارة، وأول ما وقعت عليه عيناي في طريقنا مناظر لبقايا آليات متفحمة للجيش الشيعي وللبيشمركة الكردية، متناثرة على جانبي الطرق، تروي قصص وبطولات خاضها رجال الخلافة وهم يفتكون بجيشٍ ومليشياتٍ، هي الأكثر دموية على وجه هذه الأرض، بعد الجيش الأميركي الذي فتك بأراضينا الإسلامية، وبلدان أخرى خارج منظومتنا الإسلامية، جيش شيعي ومليشيات كردية هي الأكثر إستهلاكاً للسلاح في العالم اليوم، سلاح لا يصوب إلا بإتجاه أبناء الإسلام من أهل السُنّة والجماعة، وصوب السماء حينما يلعب المنتخب العراقي، أو تلعب فرق الدوري الكردية مبارياتهم الكروية، أو حين سماعهم نبأ نجاح صفقات تبادل الأسرى مع الدولة الإسلامية، أو حين مواسم ختان الأطفال، أو في زفات الأعراس الشيعية والكردية، بعدما تناسى أهل السُنّة والجماعة في بلاد الرافدين مواسم أفراحهم بعدما غرقوا في بحور من الدم على أيدي قاتليهم من جنوب العراق المجذوب، وشماله المجنون، تماماً مثلما يحدث لأهلنا في الشام على أيدي نصيرية النظام العلوي، وما يتعرض له أهلنا في (اليمن الحزين) على أيدي حوثة العصر!
1_small.jpg
نصف ساعة من السير ليس إلا حتى حل الظلام، واضعاً الليل أستاره على تلك المساحات الشاسعة المفتوحة، لكن نقاط الضياء منتشرة في كل صوب وإتجاه..!!
كيف يقال إذن، أن الكهرباء تم إعدامها في أراضي الدولة الإسلامية، وأن الظلام هو صديق ابنائها اليوم، بعدما استحوذت الحكومة الشيعية والكردية على كل ناتج الكهرباء المحلي والمستورد، كان هذا التساؤل هو إستفهامي الأول من السائق الذي كان يحاول التخلص من عثرات الشارع وتكسراته عبر قيادة السيارة على طريقة الـ(جاكي)، والذي أجابني بأن البدائل موجودة، وأن المولدات الكهربائية قد تأقلم عليها الناس في ظل إنقطاع تام للتيار الكهربائي منذ أشهر خلت، كعقاب من الحكومة الشيعية والكردية على تحرير أراضي المسلمين من قبضتهم وخروجها من تحت سيطرتهم وسطوتهم..!
كانت السيارات تسير، وكإن هناك حياة في ليل الدولة الإسلامية، التي لا يعرف ليلها طعم الهدوء كما هو متعارف عليه، بل وكما هو مستقر في ذهني، أنا الأقرب إلى متابعة دقائق أمور الدولة الإسلامية وكبيرها، بحكم عملي الصحفي والإعلامي، فكيف يستقيم الهدوء مع صخب المعارك وأزيز الرصاص، وكيف يحل الظلام وسط نيران القصف ووهج القنابل وعصف المكان!!
لكن الهدوء فرض نفسه على جنبات الطرقات وحيث مدّ البصر، ولا يقطع اُنسته، أو يكسر هيبته، إلا صوت (هورن) السيارات ومنباهاتها حينما تمر بجانبنا، والتي يطلقها سائقيها، كتعبير عن إداء تحية السلام، وللرد عليها بذات طريقة الإداء من قبل بقية السائقين!
الأنوار تتراقص في الليل، متقاربة تارة، ومتباعدة تارة أخرى، حتى وصلنا إلى أولى المدن التي مررنا بها في طريقنا إلى الموصل الحدباء.. إنها الحويجة.. وما أدراك ما الحويجة.. الحويجة التي إن ذُكرت، ذُكرت الملاحم والبطولات والأمجاد.. إن ذُكرت الحويجة استحضرَ العدّو الأميركي مرارته فيها، الحويجة التي كانت طرقاتها تسقي الغازي موتاً في إثر موت، وهلاكاً يعقبه هلاك..!
إذن نحن الآن في حضرة الحويجة، التي سطّرت اسمها ونقشته بقوة في ذاكرة التاريخ والأيام، كيف لا، وهي التي أورثتنا قصص بطولات، وأرث رجال، تروي تفاصيل حكاياتها الجدات للأحفاد..!
كان ليل الحويجة صاخباً، لا تزال الحركة تشهد معظم انحائه، إن لم يكن كل جزء فيه، فالسوق يغص بالمتبضّعين، والمحال التجارية ما تزال فاتحة ذراعيها، والأرصفة هي الأخرى تغص بالبضائع، والناس يقفون على جوانب الطريق ملوحين للسيارات بحثاً عمن يُقلهم إلى بيوتاتهم، بعد إنتهاء يوم عمل طويل، أو إنتهاء فترة تبضعهم..!
الكباب الذي تنبعث رائحته من المطاعم، كعطر فوّاح، ترك أثره على معدتي، التي راحت عصافيرها تزقزق، كما يقول أهلنا في مصر.. يا الله، كم اشتقت إلى كباب أهلي، وددت لو أن السائق توقف أمام إحدى هذه المطاعم لأتناول اربعة، بل اربعون، بل اربعمائة (شيش) كباب، ولا أظنني اشبع، فكيف تعوض مثل هذه الكمية البسيطة سنين غربة اُجبرت عليها، غربة انهكتني وكسرت ظهري، غربة حرمتني أجمل أيام عمري على أرضي وبين أهلي..!
لعنت حينها أميركا، ولعنت الشيعة، ومعهم صهاينة الكرد، ولعنت كل دول الإستعمار والإستكبار العالمي، لعنت إيران عدوتنا منذ الأزل، والتي تمنى سيدنا عمر ابن الخطاب، رضوان الله تعالى عنه، رغم أنف من يَسبّه ويشتّمه ويلعنه، تمنى لو أن بيننا وبين هذه المجوسية جبلاً من نار، ولم ولن انسى لعن خونة أهل السُنّة والجماعة ،من الصحوات الخسيسة المحسوبة عليهم، ومن عارات السياسة ممن يدّعون تمثيلنا، وكيف لي أن أنسى كذلك لعنات تتلوها لعنات، هي نصيب حكام الدياثة، الذين سلّمونا لقمة سائغة للشيعة والكرد والنصيرية والحوثة، ومن قبلهم لأميركا، لعنها الله، وكسر صنمها!
كانت المحال التجارية تزينها أنواع المنتجات الغذائية والخضروات وأنواع من الفاكهة المعلقة التي تمنيت لو أني تناولت شيئاً منها، خصوصاً إنني كنت صائماً، كون يومي كان خميساً، ولم أجد ما اُفطر عليه، نتيجة تسابق الأحداث التي شدتني في أراضي الدولة الإسلامية، فأنستني حتى جوع الصيام وعطشه، بل كنت أرفض حتى الطلب من السائق التوقف لشراء الطعام من الطريق كي لا اتأخر عن الوصول إلى سيدة المدن، ولؤلؤة تاج وقار بلاد الرافدين، أم الربيعين، الموصل الأبية..!
كان المرور في أول مدن الدولة الإسلامية المحررة هو بمثابة إعلان حرب على كل تلك الأكاذيب التي كان الإعلام الفاجر يحاول التكتم عليها، ويزيّف حقيقتها، ويسوّقها حول طبيعة الأوضاع في مدن أرض الخلافة، وهو بذات الوقت كان عتب شديد اللهجة على إعلام دولة الخلافة الإسلامية الذي إنشغل بالمعارك والوقائع الحربية، عابراً من فوق أهمية كشف حقيقة الأوضاع المعيشية والأمنية التي يعيشها أبناء الإسلام في المناطق المحررة من سيطرة الشيعة والكرد والصحوات، إلا ما ندر من التقارير، كي تعرف الشعوب الأخرى، بل وكي يعرف أهالي بقية المدن التي تنتظر نصيبها من التحرير، أي خير عميم، وأمن كبير، وعيش رغيد ينتظرهم بعد التحرير، وضع يحاول العدو استغلال عدم تسليط الضوء عليه بكثافة من قبل دولة الخلافة الإسلامية ليسوق الأكاذيب، ويروج الدّعايات المغرضة الكاذبة، لتشويه واقع الحال الذي تعيشه مدن الدولة الإسلامية المحررة، وضع يستغله أعداء الإسلام ليوهموا الرأي العام أولاً، ولخداع أبناء الإسلام الذين لا يزالون يقبعون تحت سيطرة وحكم الطغاة في العراق وفي بقية الأمصار ثانياً، في أن الوضع الإنساني صعب للغاية، وأن الناس تعيش في ضائقة كبرى، وأن الجميع فرّ من تلك المدن التي هي تحت حكم الخلافة إلى حيث المناطق التي تخضع لسيطرتهم، هرباً من الجوع، والقحط، وانعدام الأمن، وهو ما جانبته تماماً الوقائع، ونفته الحقائق التي لمستها في مروري بأول المدن المحررة التي كانت في طريقي، وهي مدينة الحويجة، التي كشفت لي عن أمور زادت من مسؤوليتي في كشفها للعالم، حتى لا يظن بعض المخدوعين أن كلام الإعلام حقيقة، فما وجدته في هذه المدينة جعلني أتمنى العيش في جنة الحويجة التي يصورها الإعلام المحلي والعربي والعالمي على إنها الجحيم، فيا لجمال ذلك الجحيم الحويجي، إن كان جحيماً كما يدّعي الشيعة والكرد والأعراب، وأسيادهم!
خرجنا من الحويجة، إذ تأخرنا فيها قليلاً من شدة الزحام، بعدما امتلئت طرقاتها بأنواع السيارات التي اجهل موديلات وأنواع بعضها، بعدما تركتُ يوماً سيارة (الأوبل) ومشتقاتها هي سيدة الشارع، إذ تربعت على عرشه لسنين طوال، حتى نالت تسمية (همر المجاهدين) في معارك وصولات وجولات اُسود الجهاد في مدن أرض الفراتين، وبالكاد تمكّنا من سلك الطريق العام الذي من المفترض أن ياخذنا إلى مدينة (الگيارة)، ومنها هناك إلى حيث أرض المُنى!
عند آخر تقاطع يخرج من مدينة الحويجة، وحيث يلتقي هناك ثلاثة شوارع، استوقفتنا نقطة تفتيش كان افرادها يرتدون الزي الإسلامي، أو ما يسمى بـ(القندهاري)، اللباس الرسمي لجند الدولة الإسلامية، وكانوا يستوقفون السيارات التي تخرج من مدينة الحويجة فقط، ولم ألحظ وجود أحد منهم على طريق الدخول إلى المدينة، ربما لإن تركيزاً أكثر يجري على هوية المتوجهين إلى بقية مدن الخلافة مروراً بالحويجة، أكثر من الخارجين من أراضي الدولة الإسلامية بإتجاه الحويجة، على إعتبار أن الحويجة هي مدينة حدودية بالنسبة لدولة الخلافة الإسلامية وولاياتها، والداخل إليها ليس كالمغادر منها!
إقترب من الباب أحد الرجال، كان متوسط الطول، يضع عوينات طبية، ملتحٍ، لم أرَ على وجهه إبتسامة كذاك الذي رأيته في أول بوابات دولة الخلافة، بخلاف الهدوء الغريب الذي كان عليه..!
سألني قبل غيري، بحكم جلوسي على مقربة من الباب الجانبي الذي يُفتح بطريقة الـ(سلايد):
إلى أن الوجهة، بإذن الله؟!
إلى الموصل، إن شاء الله.. تلك كانت إجابتي!
فرد عليّ:
حياكم الله!
ثم نظر إلى الشابين الجالسين بجانبي فطلب منهما إبراز هويتيهما، فأخرجا له هوية الأحوال المدنية، أو ما تسمى في العراق بـ(الجنسية)، فتفحصهن، قبل أن يعيد تسليمهن إليهما..!
ظننت حينها إنه استثناني من المطالبة بهويتي، لكنه وجه إليّ كلامه بعد ذاك، مخاطباً إياي بالقول:
وأنت يا حاج!؟
حينها سلمت له جواز سفري، والذي كنت قد اخرجته من جيبي ووضعته في يدي حتى قبل أن يفتح رجل الدولة الإسلامية باب السيارة حينما استوقفنا، ولا أعرف صراحةً ما سبب إستعجالي إخراج هويتي وجواز سفري بهذه السرعة، وقبل أن يسألني حتى، ربما من ترسبات الماضي البغيض الذي يوجب علينا الركوع والسجود للشيعي والكردي، وربهما الأميركي، في نقاط تفتيشهم الوحشية، التي اعتدنا شرب الذل والهوان فيها، نحن أبناء السُنّة والجماعة، قبل أن تتحرر أراضينا اليوم..!
سألني بعدما أمسك جواز سفري وفتحه بين يديه:
هل أنت عراقي؟
اجبته بـ نعم!
ثم أضاف بعدما رفع النظارة عن عينيه قليلاً ليتمعن في الجواز أكثر، مستعيناً هذه المرة بمصباح يدوي كان يحمله بيده، وليس على ضوء السيارة الداخلي، كما فعل قبل ذاك حينما أراد التأكد من هويات من سبقوني.. ثم كرر سؤالي:
أين وجهتك؟!
ولأن وجهتي لم تكن محددة بمدينة بعينها، أو بولاية دون غيرها، كانت إجابتي على تساؤله بقولي:
وجهتي أرض الخلافة!
ففهم من إجابتي إنني إنما جئت إليها مهاجراً، أو هكذا ظننت، خصوصاً بعدما رد عليّ بالقول:
قد وصلت!
ثم اعقب ذلك بسؤال، في وقت كان لا يزال يستمر في تفحص جواز سفري:
ماذا تعمل؟!
أجبته على الفور، ودون تردد:
صحفي وإعلامي!
وهنا رفع عينيه بإتجاهي.. ثم تراجع بضع خطوات إلى الوراء، وجواز سفري في يده، ليمسك جهاز الراديو بيده ويبدأ يتحدث مع شخص آخر قائلاً له:
صلني بالشيخ.. بعدها بلحظات تحدث مع شخص آخر بشأني قائلاً له:
هناك صحفي جاء من الخارج ينوي التوجه إلى الموصل.. مع إنني ذكرت له أن وجهتي أرض الخلافة، لكنه اعتمد على وجهة جميع ركاب السيارة إلى الموصل على ما أظن، ليحدد هو بدوره وجهتي نحوها، ولم يخطئ.. ثم أضاف:
كيف نتصرف، وما هو الموقف من الصحفيين؟!
جاءت الإجابة من ذلك الشخص الذي ناداه بـ(الشيخ) بوجوب إنتظار مجيئه شخصياً إلى نقطة التفتيش، وهو ما دعا رجل الخلافة الذي استوقفنا أن يطلب من سائق السيارة بالتوقف إلى جانب الطريق، ريثما يصل المسؤول الأمني عن نقطة التفتيش!
ركن السائق السيارة على بُعد أمتار عدة من جانب الطريق، وأوقف السيارة، ثم أطفئ محركها!
كان صوت رجل الدولة الإسلامية وحديث (الشيخ) على مسمع مني، ومن جميع ركاب السيارة، فأخذ بعض الركاب يتهامسون، في حين علا صوت تلك السيدة، التي كانت تجلس خلفي، قائلة لي بصوت مرتجف:
ولدي، لماذا اخبرتهم بإنك صحفي، سيأخذونك الآن!! قالتها بلهجة بغدادية صرف ( يمة ليش كتلهم أتة صحفي، هسة ياخذونك)!
كانت تلك السيدة ترتعد من شدة الخوف، وكانت تردد (يمة يحرسك الرحمن) و( سور سليمان) وغيرها من الأدعية التي تتردد على لسان كبيرات السن، بغض النظر عن شرعيتها من عدمه، ثم أخذت تهمهم بقراءة آيات من القرآن الكريم من شدة خوفها عليّ، خصوصاً أن الأم العراقية ليست كسائر الأمهات، فأغلب أمهات بلاد الرافدين عُرفن بفرط عاطفتهن حتى على أبناء غيرهن.. وهنا ما كان مني إلا أن اُطمّئنها، وأنا اترجل من مكاني إلى خارج السيارة، بأن لا شيء يدعو للخوف، وبأنهم سيتأكدون من الاسم، ثم نواصل طريقنا، بمشيئة الله.. لكن السيدة أبقت على لومها لي، وبذات الوقت على ادعيتها التي لم تنقطع، فيما واصلت المسير بدوري نحو رجل الدولة الإسلامية الذي قطع الطريق بإتجاه غرفة صغيرة تسمى عند أهل العراق بالـ (كابينة) وضعت عند نهاية الجزرة الوسطية عند حافة التقاطع، فيما بقي رجل آخر يستوقف السيارات الخارجة من المدينة، والتي لا يعرف هوية أو وجوه أصحابها، في وقت كان يكتفي برد السلام على بعض أصحاب السيارات، ممن كان يعرفهم، إذ يرد عليهم منادياً إياهم باسمائهم، ما ترك إنطباعاً لديّ أنه من أبناء المدينة نفسها..!
كان يجلس عند باب تلك الغرفة، (الكابينة) الصغيرة، التابعة لنقطة التفتيش ثلاثة رجال، ركنوا أسلحتهم بجانبهم وهم يتناولون طعام العشاء في ظلمة لا تخفف من شدة وطئتها الحالكة إلا أنوار السيارات القادمة من كلا الإتجاهات الثلاث، ما منعني من معرفة ماكانوا يتناولونه، لكني ميّزت الوعاء الذي كان يحوي الطعام، إذ كان (منسف) صغير، ما جعلني اُرجح الرز كطعام لهم، خصوصاً إننا في العراق من عادتنا تناول الطعام في مناسف عندما نكون في مجاميع، صغيرة كانت أو كبيرة!
قال لي أحدهم:
تفضل معنا!
شكرته، ثم توقفت بجانب الرجل الذي كان يمسك بجواز سفري، حيث كان يقف على مقربة من بقية زملائه، والذي خاطبته بالقول:
أنا الإعلامي والكاتب الصحفي (حسين المعاضيدي) يا حاج، فهل من مشكلة في الأمر!؟
فرد عليّ بغياب إبتسامته وبهدوئه الذي لم يفارقه:
سيأتي الشيخ الآن أخي، وهو من سيتحدث إليك..!
اكتفيت بكلامه هذا، ولم أواصل الحديث معه، لأني شعرت أن الأمر لم يعد بيده، بل بيد من سيأتي لمقابلتي، فهو من سيبُتُ في أمر الصحفيين من أمثالي..!
حينذاك داهمني شعور أن هذه الليلة ستطول على غير العادة معي، وأخذت أفكر في كيفية مواصلة مسيري نحو الموصل، في حال تأخر وصول ذلك (الشيخ) واضطر سائق السيارة لمواصلة رحلته نحو الموصل مع ركابه دوني، فمن غير المنطقي أو المقبول مني أن اجعلهم يتأخرون لساعات في حال تأخر وصول الشيخ فترة طويلة..!
كنت أهم بالتوجه إلى سائق السيارة لأطلب منه إنزال حقيبتي وإكمال رحلتهم، وهو ما أخبرت به رجل الدولة الإسلامية الذي كان لا يزال ممسكاً بجواز سفري بيده، لكنه طلب مني التأني لأن الشيخ لن يطول وصوله، وقبل أن يختمَ عبارته توقفت سيارة بيكب، أو ما تسمى عند أهل العراق بـ(دبل قمارة)، في الجانب الآخر من الشارع، على مقربة من سيارة الأجرة الـ(كيا) التي كنا نستقلها، وكان يقود تلك السيارة رجل ملتحٍ، يقترب من العقد الرابع من العمر، نحيف الوجه قليلاً.. توجه إليه رجل نقطة التفتيش وسلّمه جواز سفري، ثم نادى عليّ (الشيخ)، وهو يجلس في السيارة:
تعال إلى هنا من فضلك يا حاج!
سرت إليه بخطوات سريعة، بعدما شعرت بإرتياح من طريقة مناداته لي، شعور قتل ذلك الخوف من التأخر عن رفاق رحلتي إلى الموصل.. سلّمت عليه، ومدّ لي يده للسلام، فزادني إطمئناناً..!
سألني أولاً، وهو يقرأ في جواز سفري:
في أي قناة تعمل!؟
أجبته، إجابة الواثق من نفسه، فمثل هذه المواقف تعلمت منها، بحكم عملي وطبيعته، أن من يخاف فيها يهلك:
أنا كاتب المجاهدين ومناصرهم حسين المعاضيدي!
استقر نظره على وجهي بعدما كان يتنقل ببصره، أول الأمر، ما بين جواز سفري ووجهي، ثم قال:
والله والنعم!
ثم واصلت:
تستطيع التأكد من شخصي عن طريق الإنترنت، فستجد فيه مقالاتي وكتاباتي مقرونة بصوري، فضلاً عن لقاءاتي المتلفزة!
فأجابني:
ما من داعٍ!
قالها بحماسة، رافقتها هزّة خفيفة برأسه، دون أن يخبرني إن كان قد عرفني أم لا.. ثم أردفها بالقول:
وإن شاء الله وين ناوي تروح.. ذكرها باللهجة العراقية، كتعبير عن الأستفسار عن وجهتي..!؟
قلت له:
الموصل، بإذن الله!
فقال: محروس بالله، توكل على الله..!
ثم خاطب مسؤول نقطة التفتيش الذي كان يقف بجانبي ويستمع لحديثنا:
دّعه يمر يا حاج، قبل أن يختم معي بالقول، وهو يسلّمني جواز سفري:
إن شئت البقاء معنا فمرحباً بك بين أهلك.. فتبسم قلبي قبل وجهي فأجبته، وباللهجة العراقية:
والله وعشرة نعم منك ومن وجهك الطيب.. لكني عزمت التوجه إلى الموصل.. فرد عليّ مُنهياً اللقاء بالقول:
إرشد (أبو علي) توصل بالسلامة.. و(أبو علي) هي الكُنية لمن يحمل اسم (حسين) في العراق، فكل (حسين) هو (أبو علي)، والعكس صحيح!
عدت إلى السيارة بعد أن صافحته، يتبعني رجل الدولة الإسلامية، ذو العوينات الطبية نفسه، وما أن وصلت إلى السيارة حتى أخذ الجميع يهنئني على السلامة، وعلى رأسهم السيدة التي كانت خلفي، والتي وجدتها لا تزال مستمرة في الدعاء.. فخاطبتهم بالقول:
كان الأمر بسيطاً، تأكدوا من الاسم ليس إلا، فيما بقيت السيدة تلومني على إبلاغهم بحقيقة مهنتي..!
توقف جندي الدولة الإسلامية عند الباب، وقبل أن يغلقه أمسك بحافة الباب، ثم أخذ ينظر إليّ قبل أن يسألني:
يا أمي: لماذا لا ترتدي الحجاب الشرعي!؟
استغربت لسؤاله، فوضعت نظارتي الطبية على عيناي لأتأكد من أن نظره موجه نحوي، فتأكدت، فظننت لوهلة أن خطباً ما أصاب نظارته، أو أن مشكلة ألمت ببصره، بعدما تأكدت من سلامة بصري ونظارتي..!
أجبته مستغرباً: عفواً، أتتحدث معي!؟
فرد عليّ، وهو لا يزال غارقاً في بحر هدوئه الغريب، مع إبتسامة خفيفة ظهرت على قسمات وجهه لأول مرة، فهمت منها إنها إبتسامة إعتذار، فقال:
أتحدث مع الأخت التي تجلس خلفك!
قالت السيدة: أتقصدني أنا يا ولدي!؟
أجابها:
نعم أنتِ، حفظك الله! ثم كرر السؤال عليها، دون أن يشيح بعينيه عني!
فردت عليه، مؤكدة له في ذات الوقت:
أنا محجبة يا ابني!!
فقال لها: أتحدث عن الحجاب الشرعي الذي يغطي الوجه، (الخمار) يا أمي!
فردت عليه بصيغة اللوم:
أنا إمرأة كبيرة في السن، وأنت مثل حفيدي يا ابني!
فرد عليها بأدبٍ جّم:
إنه شرع الله يا أمي..!
ثم أضاف: هل هذا الذي بجانبك أبنك.. قالها وهو مستمر في التحديق نحوي!؟
فردت عليه، بعدما خفّضت من نبرة صوتها قليلاً:
لا والله يا ولدي، فأنا لوحدي، لكن معي هؤلاء الذين في السيارة، وجميعهم بمثابة إخوتي!؟
صمت لبرهة، وكأنه يستوعب صدمة الجواب، قبل أن يعود ليسألها مجدداً عن وجهتها والمدينة التي جاءت منها:
فأكدت له أنها (موصلّية)، وإنها تنقلت بالطائرة لأكثر من مكان، وأنها استقلت سيارتين قبل سيارة الأجرة تلك، والتي كنا نجلس فيها في طريقنا إلى الموصل، وإنها في الطريق منذ ثلاثة أيام!
فأنّبها هنا بشدة على خروجها بلا محرم، ثم سألها إن كان زوجها حياً أم لا، فأكدت له إنه على قيد الحياة، فقال لها:
وكيف يسمح لك زوجك بالخروج لوحدك والتنقل هكذا في ظل هذه الظروف التي يخشى فيها الرجل على نفسه، كيف له أن يفعل، ألا يتقِ الله فيك؟! قالها بغضب هكذا، وبحرقة!
أجابته أن زوجها مريض ولا يقوى على السفر، وأنها اضطرت إلى السفر نتيجة مرضها هي الأخرى، وحاجتها لرؤية الأطباء!
سألها كذلك إن كان بيتها في الموصل أم في مدينة أخرى، فأشارت له أن سكناها حالياً هو في العاصمة بغداد، حيث تركت زوجها هناك!
ثم واصل حديثه معها، حديث يحمل بين طياته ألم، أكثر مما هو إستغراب، ألم على واقع حال أُمة باتت تسير فيه المرأة المسلمة ليل نهار، وتقطع مئات، بل آلاف الأميال، دون أن يكون برفقتها محرم، أو تعير لهذا الجانب أي اعتبار!
قال لها بعدما خاطبها هذه المرة بـ(يا أخيتي):
إن كان زوجك لا يخاف عليك، فنحن نخاف عليك، وإن كان زوجك لا يهتم لأمرك، وتركك تخرجين لوحدك بلا محرم، فنحن يهمّنا أمرك، ولا يحق لنا تركك تسيرين بلا محرم، لكن ما عسانا نقول إلا (لا حول ولا قوة إلا بالله).. ثم واصل:
والله لن ينصلح حال الأمة إلا بصلاحنا نحن.. والإثم جلّه في رقبة زوجك، الذي سمح لك بالخروج بلا محرم، وفي هذا الظرف العصيب جداً الذي نعيشه، غفر الله لك، ولزوجك!!
سألها في نهاية الأمر عن سبب توجهها إلى نينوى دون غيرها.. فأكدت له إنها في زيارة لأبنتها التي تسكن الموصل.. فقال لها، وعيناه صوب عيناي أنا طوال الوقت:
قلتِ إنكِ خرجتِ للعلاج، والأن تؤكدين أن زيارة ابنتك من أخرجتك، قالها بصيغة (ما ينبغي لنا أن نكذب ونحن أهل إسلام).. ودون ان ينتظر سماع الجواب، أغلق الباب بعدما قال للسائق، ولنا، بصيغة الدعاء:
توصلون بالسلامة!
وقبل أن تتحرك عجلات السيارة في رحلتنا صوب مدينة الأنبياء، أدركت إنني في الزمان والمكان الصحيحين، زمان ترقبنا حلوله طويلاً، زمان نجد فيه من يحرص على أنفسنا وعلى أعراضنا، أكثر من حرصنا نحن على أنفسنا وعلى أعراضنا، ومكان بحثنا عنه كثيراً كثيراً في زوايا وخفايا الوجود، يحكمنا على اديمه رجال أشداء على الكفار، رحماء بينهم، رجال يخافون الله، ويقيمون شرعه فينا!