هنا أرض الخلافة! حسين المعاضيدي
1_small.jpg
الحلقة الأولى
بعد طول إنتظار لأكثر من عشرة أيام على قارعة الطريق مع عشرات العائلات وقفتُ على أعتاب آخر محطة قبل الوصول إلى أول نقطة في أرض قيلَ فيها الكثير، ونسجت عنها الروايات، وحيكت حولها الأساطير، حتى فاقت غرابة حكاياتها قصص الألف ليلة وليلة..!
بضعة مئات من الأمتار، هي كل ما تفصلني الآن عن أرض الأمل، كما يحلو للبعض أن يسميها، مئات من الأمتار قطعتها سيراً على الأقدام، وعلى ظهري حقيبة جمعت فيها بعض ملابسي، وحذاء خاص بالسير لمسافات بعيدة، وأدوات أخرى، فضلاً عن كاميرا فيديو، ومثلها فوتوغرافية أحملها بيدي مع جهاز كمبيوتر محمول (لابتوب)!
2_small.jpg
قبل آخر نقطة تفتيش مررت بها سألني أحدهم، ممن كان يروم دخول أرض الخلافة هو الآخر، عن هويتي، فأبلغته إنني أحمل جواز سفر أجنبي، فأرتعدت فرائصه، وقال لي:
هل أنت مجنون، كيف تدخل أرض (باقيه وتتمدد) وأنت تحمل جواز سفر أجنبي، لقد سمعت من الإعلام عنهم الكثير الكثير.. ربما سيقطّعونك إرباً ويرمون لحمك للكلاب، كما يقول الإعلام عنهم، أو ربما يقايضونك بفدية كبيرة مع دولتك التي جئت منها، ناصحاً إياي بإخفاء جواز سفري في مكان لا يستطيعوا الوصول إليه، أو التخلص منه كأسلم إجراء إن كنت مضطراً للدخول.. ثم أضاف:
أنا لم أدخل هذه الأرض منذ عدة أشهر، فلقد (سقطت الموصل) وأنا خارج المدينة، والآن قررت العودة لأرى ما حل بمدينتي، حيث اضطررت للعودة بعدما نفذت أموالي خارج البلاد!
حينها عرفت أن هذا الشخص كان يقطن الموصل، وأنه يريد دخولها اليوم لأول مرة بعد التحرير، لكنه يحمل في رأسه أفكاراً عدة حول ما يجري هناك، وكل ما يحمله قد ترسّخ في ذهنه عن طريق الإعلام اللا منصف المعادي للدولة الإسلامية!
وأنا أقطع المسافة، التي تفصل بين العدوين اللدودين، سيراً على الأقدام، اختلجت وامتزجت بداخلي مشاعر عدة، فهناك، وأنا اُغادر آخر نقطة في عالم معروف للجميع، عالمٌ (شيعي – كردي) يغطيه إعلام تسابق على خدمته في السّراء والضّراء، على الحق وعلى الباطل، رغم ضآلة الحق عندهم وندرته، وتعاظم باطلهم وقوته، عالم يراه البعض محكوماً بقانون، في الوقت الذي تحكمه، في حقيقة الأمر، شريعة الغاب، وفساد يغطيهم من رأسهم إلى أخمص أقدامهم.. وقفت هناك وسط تناقضات المشاعر، رغم معرفتي بإن تلك الأرض التي بُتُّ عند مدخل أولى بواباتها لا يمكن أن تغدر، فلقد عايشتها بقلمي، وكتبت عن جنودها، وعن جهادها، وعن مشروعها منذ سنين خلت، ولكن الكتابة شيء، ودخول أرضها اليوم ومعتركها شيء آخر..!
4_small.jpg
ورغم المخاوف التي كان يحاول الإعلام على إختلاف مشاربه وتوجهاته المشبوهة، وجهلة الناس زرعها في نفوس المشتاقين إلى تحكيم شرع الله من أمثالي، إلا إنني هناك قد شعرت، ولأول مرة، بنسمة هواء تأتيني من ذلك الإتجاه، حيث أرض الوغى والجهاد المقدس، كنت أتنفس بعمق، وكإني لم أتنفس هواءاً من قبل، كنت ابتسم في داخلي، واشعر برغبة في الجري لاُسابق بعض الناس الذين تقدموني في سيرهم نحو حدود دولة الخلافة، لكني كنت اُفضّل أن أكون وسط الناس حتى لا اجلب الأنظار، فالأمتار الأخيرة التي بدأت أشعر إنها الأطول مسافة على وجه هذه الأرض، أريد إنهاؤها على خير، فقد كنت أراها الأخطر في كل رحلتي، رغم كل الصعاب التي واجهتها، والمخاطر التي جابهتها، والاعتقالات التي تعرضت لها في رحلتي الطويلة هذه!
وما هي سوى بضع عشرات من الدقائق التي تفصل بين الحدّين، كنت أراها دهوراً وأعوام، حتى وصلت لأرض الأحلام، تلك الأرض التي عشت فيها يوماً، وتجولت في ربوعها، ومارست عملي فيها كصحفي وكإعلامي، بل وتعاملت مع مجاهديها، رغم أنف المحتل الأميركي، ورغم أنف كلابهم المرتدين والصفويين الخاضعين لسلطة الغزاة، لكنني قد تركت هذه الأرض منذ سنين طوال، تجاوزت الثمان، كارهاً غير راغب، والجيل الأول والثاني الذي تعاملت معه قد التحق معظمهم بقطار الشهداء ممن بُنيت على جماجمهم وأشلائهم أركان دولة الخلافة التي اُقيمت اليوم، بفضل الله تعالى، وجاءت بعد تلك الثلة المباركة أجيالاً جهادية أخرى، فمن كان صبياً في مقتبل العمر أول الاحتلال، امسى اليوم رجلاً صلباً، صلداً، لا تهزه الشدائد، ومن كان طفلاً ما يزال لبن أمه الطاهر في فمه، قد غدى اليوم فتىً يافعاً، وجندياً لا تفتنه النوائب، مجاهداً في جيش الحق، جيش الخلافة ينازل الباطل في هذه الحرب العقائدية التي يخوضها المسلمون ضد جموع الكفر والإلحاد والشرك والردة التي تكالبت على أُمة الإسلام من كل حدب وصوب!
3_small.jpg
كانت عيون الجنود المدججين بالسلاح وبالدروع الواقية والمنتشرين على جانبي الطريق ولمسافة مئات الأمتار ترمقني وكإني وحش كاسر، أو هكذا كنت أشعر وأنا أرقُب نظراتهم نحوي، كان الشرر يتطاير من تلك العيون الغائرة، بل كنت ألحظ وأقرأ الخوف والرعب بداخل تلك العيون، حتى شعرت أن مجرد الإنتهاء من هذه المسافة الفاصلة بين معسكري الحق والباطل إنما هو عيد، بل ولادة لي من جديد!
وصلت إلى أرض الخلافة وقبل أن اُقبّل ترابها ألتفت خلفي، وكان يجول في خاطري أن ابصق على كل ما هو خلفي، لولا بعض الناس الذين لا يزالون يسيرون ورائي ممن كانوا يقصدون وجهتي، لكني وضعت حقيبتي من على ظهري، وألقيت بكاميرتي والـ(لابتوب) بجانب الحقيبة، وأخذت اُقبّل الأرض، وأعفر وجهي بتراب أرض الخلافة..!
نهضت بعد طول إحتضان لتلك الأرض التي طال عودتي إليها، وأخذت الموبايل لأتصل على زوجتي، التي تركتها مع طفلاي خلفي، إذ لم استطع إصطحابهم معي إلى أرض الخلافة لصعوبة الإجراءات، وتعقيدات ما قبل الوصول، فأبلغتها أني دخلت الآن لأخطر أرض، كما يصفونها، ولن يكون بالإمكان التواصل، فلا إتصالات هناك ولا إنترنت، ولا أية وسيلة أخرى، لهذا عليكِ، كما أخبرتها، أن تربي لي اُسوداً جائعة، لا أغنام مدجّنة، قاصداً بذلك طفلاي اللذين تركتهما خلفي..!
حينما اتصلت على زوجتي كانت تلك الكلمات هي آخر ما سمعتها مني، واردفتها بـ( إن كتب الله لي العيش، فسأعود يوماً، وإن لم أعد فأصبري واحتسبي، فما خرجت بطراً، ولا بحثاً عن مجدٍ زائل، إنما هي حقيقة وواقع مغيب يجب أن أقف عليه بنفسي واستكشف خفاياه، حتى لا أكون كمن يهذي بما لا يدري، ويكتب عما يسمعه من أفواه الآخرين، فلابد أن أقف على مكامن وبواطن الأمور، بعيداً عن التعصب والتحزب الأعمى، والكذب المفضوح، والنقل اللا أمين، وفبركة القنوات ودجلها!
بجواري، وعلى بعد أمتار من آخر نقاط التفتيش لآخر موقع تابع لسلطة (الشيعة والأكراد)، كانت هناك مجموعة سيارات أجرة، بعض سائقيها ينادي: (حويجة.. حويجة)، وبعضهم الآخر يعلو صوته بـ (گيارة.. گيارة)، وبعضها ينادي باسم مدن آخرى، فيما شدني صوت سائق ينادي (موصل.. موصل)!
يا لوقع هذا الاسم.. لم يكن في بالي أن اتجه إلى هذه المدينة، فلم أكن قد حددت وجهة لي بعد، فكل ما كان يهمني حينذاك كيفية الوصول إلى أرض الخلافة.. لكن وقعُ إسم الموصل سحرني، كيف لا، وهي التي إنهارت فيها جموع الضلال في سويعات، فتحررت على أيدي المجاهدين بلمح البصر..!!
لبرهة عادت بي الذاكرة لأيام وساعات تحرير هذه المدينة الإسطورية لحظة بلحظة، حينها كنت على تواصل مع القنوات الفضائية، وأزوّدهم بأخبار المعارك أولاً بأول، فكنت على تواصل مع كثير من أبناء هذه المدينة، ممن كانوا يزودوني بالأحداث العاجلة حال وقوعها وقوعها، حتى بدى لكثير من وسائل الإعلام التي كانت تعتمد أخباري إنني كنت في أرض المعركة، وهكذا كنت أحسب نفسي!
سرت بعد ذاك نحو مصدر ذلك الصوت وهو ينادي: (موصل موصل).. وقفت أمام السائق بحقائبي، خاطبته بحماس:
أين سيارتك؟!
أجابني:
هناك، في تلك السيارة، مشيراً إلى سيارة نوع (كيا)، تتسع لأحد عشر راكباً، اتجهت إليها، وكانت على بُعد قرابة العشرين متراً، قطعتها بخطوتين، أو هكذا خُيّل إليِّ!
كانت تلك اشبه ما تكون بالأرض الحرام في المعارك، كانت أرضيتها غارقة بالنفايات، فلا أحد من الطرفين المتحاربين يدخلها، باستثناء المدنيين المتنقلين بين الدولتين بحدودهما الجديدة المؤقتة، لهذا كانت أرضها أشبه ما تكون ببرميل نفايات، إذ ينتظر الناس على أديمها أياماً وأسابيع قبل أن يُسمح لهم بالمرور من قبل مناوئي الدولة الإسلامية، فهؤلاء المناوئون ينظرون إلى من يدخل أراضي الدولة الإسلامية على إنه إرهابي، أياً كان عمله، أو مهنته، أو حجته، أو إنتمائه القومي، ما دام مسلماً سنياً، أو عربياً موحداً، والحال ذاته ينطبق على كل من يخرج من أرض الخلافة حيث يُعامل هو الآخر على إنه إرهابي، لا تزال يداه تقطر من دماء جنود الشيعة والكرد ومليشياتهم والمتعاونين معهم أياً كان عمره أو جنسه!
6_small.jpg
وضعت الكاميرا والـ(لابتوب) بجانبي، حيث المقاعد التي تقع خلف مقعد السائق، ثم وضعت حقيبتي في صندوق السيارة الصغير، الذي بالكاد اتسع لبضعة حقائب، من على شاكلة حقيبتي، فيما تم وضع بقية الحقائب فوق قمرة السيارة بعدما رُبطت بالحِبال، ثم جلستُ منتظراً إنطلاق السيارة نحو المدينة الأكثر رعباً في نظر العالم، الموصل!
اكتمل العدد، إلا واحداً، وما هي لحظات حتى جاءت سيدة تكاد تبلغ الخمسين، أو أقل من ذلك، أو ربما تزيد بعام أو عامين، لتصبح السيارة على أهبة الإنطلاق بعد تمام العدد..
جلست تلك السيدة في المقعد الذي يليني، ويجاورها شابين في العشرينات من العمر، وخلفهما عائلة مكونة من رجل وسيدتين، أما أنا فكان بجواري شابين، كنت أنا الأقرب إلى باب السيارة منهما، فيما جلس رجلان في المقعد الأمامي بجوار السائق، أحدهما كان اُستاذاً جامعياً، كما تبين لاحقاً، والآخر رجلٌ في الثلاثينات من العمر..!
انطلق السائق، بعدما طلب خمس وعشرين ألف دينار عن كل شخص كإجرة، فوافق الجميع بلا تردد، فهي تسعيرة معقولة، بل ومخفضة، للذهاب إلى مدينة اسمها كحد السيف!
7_small.jpg
على بعد مئات الأمتار، وتقريباً على مسافة كيلو متر واحد أو يزيد بقليل، وصلنا أولى نقاط التفتيش التابعة إلى دولة الخلافة الإسلامية.. كانت الراية السوداء المنقوش عليها (لا إله إلا الله محمد رسول الله) تعلو جسراً هو بمثابة الحد الفاصل عملياً بين حدود الدولة الإسلامية وحدود أعدائها.. تأملت تلك الراية التي كانت ترفرف بزهو وشموخ في أرض الإسلام، بعدما كان مجرد رفعها في مكان ما يمثل قمة الإرهاب، لا بل ويتعرض رافعها إلى الإعتقال والتعذيب، بل والتقتيل، من شدة الرعب مما تمثله من إسلام حقيقي تحاول الأمم التي تكالبت على اُمة محمد، صلى الله عليه وسلم، محاربته، وطمس هويته، وقتل أتباع نبيه!
استغربت بداية الأمر لقرب المسافة التي تفصل الدولة الإسلامية عن عدوها.. كان الجسر يربط عدة تقاطعات على الطريق، والذي تعرض إلى القصف، لا يزال منتصباً رغم عنف الهجوم، حيث تبين أن الطيران الأميركي والفرنسي والبريطاني والسعودي والأردني والإماراتي والمغربي والإيراني قد قصفه بستة صواريخ، لم تحدث أضراراً إلا في أجزاءٍ منه، لكنه على العموم لا يمكن السير من فوقه نتيجة الفتحات والثقوب التي خلفها القصف، والتي ابصرتها من تحت الجسر أثناء مرورنا من تحته، والذي كان يتوقف تحته أول مقاتل من جيش دولة الخلافة الإسلامية تقع عليه عيناي بعد آلاف الكليومترات التي قطعتها نحو أرض الخلافة الإسلامية!
كان شكل التقاطع مانعاً صناعياً، ومصداً، وساتراً لأي إستهداف قد تتعرض إليه أولى نقاط التفتيش التابعة للدولة الإسلامية، ما خلا السماء المفتوحة، التي تبقى أنظار جنود الدولة الإسلامية مشدودة إليها لتفادي أي هجوم بالطيران (الغربي – العربي – الإيراني)..!
توقفت السيارة التي نستقلها خلف سيارة كان جنود الدولة الإسلامية يتحدثون مع سائقها ومع ركابها، فسارعت بحكم قربي من الباب إلى الترجل والإقتراب من السيارة الأولى التي كان عناصر الدولة الإسلامية يقومون بتفتيشها بحكم فضولي الصحفي ورغبتي في مراقبة طريقتهم في تفتيش ومعاملة الناس، فوقفت بجانب ركاب تلك السيارة دون أن يمنعني عناصر التفتيش من الوقوف معهم!
5_small.jpg
سأل رجال الدولة الإسلامية ركاب تلك السيارة إن كان هناك من يحمل معه أو في جيبه أو في حقيبته سجائر، فنفى الجميع، بضمنهم سيدة، يكاد عمرها يصل لمنتصف العقد الخامس من عمرها، إلا إن طفلاً كان برفقة تلك السيدة راح يستفسر من والدته قائلاً:
أمي، أوليس معك سكائر، لماذا لا تقولين عندي سجائر!!؟
حينها ضحك رجال الدولة الإسلامية من براءة الطفل، وأعادوا السؤال ثانية دون أن يحددوا لمن السؤال موجه، فما كان من السيدة إلا أن قالت:
نعم أبنائي، أنا معي سجائر!
فطلبوا منها على إستحياء أن تُخرجها، فأبلغتهم إنها تضعها في حزام تربطه حول خصرها، فطلبوا منها أن تستتر خلف موضع أقاموه من الجدران الكونكريتية المسلحة يلجئوا إليه في حال تعرضهم إلى هجوم الطيران المعادي، فأتجهت هذه السيدة إلى هذا المكان لتستخرج علب السجائر من حزامها الذي تخفيه تحت عباءتها، فيما انشغل جنود الدولة مع بقية الركاب في حديث لم اسمع منه الكثير، حيث كانوا يتحدثون معهم بهدوء، وما هي سوى لحظات حتى عادت السيدة ومعها ثلاثة (كلوصات) سجائر، والـ(كلوص) هي التسمية التي يطلقها العراقيون على كل عشرة علب صغيرة من السجائر توضع في علبة كبيرة.. كانت السيدة تحمل قرابة الثلاثين علبة صغيرة من السجائر في حزامها العريض التي كانت تلفه حول خصرها، فتسلمها منها أحد جنود الدولة الإسلامية مخاطباً إياها بـ (أمي) دون ان ينظر إليها قائلاً:
يا أم، والله إني لأخجل من محاسبة الشباب على حملهم السجائر، فكيف بك أنتِ.. ثم أضاف:
اسأل الله أن يغفر لنا ولكِ، تفضلي عودي إلى مكانك في السيارة يرحمك الله!
كان ذلك المشهد، الذي لم يغادر خيالي، أول موقف أراه وأشهده بنفسي يتعلق بطريقة تعامل جنود الدولة الإسلامية مع المواطنين ممن يسكنون في المناطق السُنّية التي تم تحريرها من سيطرة الشيعة والأكراد، والحق أقول إنني كنت اترقب طريقة تعاملهم مع هذه السيدة والحكم الذي يمكن أن يصدروه بحق من يثبت حمله للممنوعات، ومنها السجائر، كما هو في قانون الدولة الإسلامية الذي يستند إلى دستور وشريعة الله، سبحانه وتعالى، فلم استغرب طريقة تعاملهم الخجولة والتسامحية مع تلك السيدة، فمن يستمع ويشاهد الإعلام العراقي والعربي والكردي والعالمي يكاد يجزم أن جنود الدولة الإسلامية كانوا سيفصلون رأسها عن جسدها ثم يحرّقونها في إخدود يتم حفره لها بجوار نقطة التفتيش كما اعتدنا على سماع ذلك من الإعلام على إختلاف نِحَلِهِ!!
طلب أحد جنود الدولة الإسلامية من سائق السيارة التي تقلنا التقدم إلى الإمام إستعداداً للتفتيش فعدت وجلست في مكاني لتتحرك السيارة بضعة أمتار ليس إلا!
كان الشاب الذي يجلس بجانبي قد اُصيب بنوع من الإرتباك، مثلما لاحظت عليه، فسرعان ما سألني:
ما الذي أفعله.. ما الذي سيحصل لي، وكلمات أخرى كان يتمتم بها!
سالته عن مشكلته، فقال لي إنه يحمل علبة سجائر في جيبه، وإنه يخشى أن يعتقلوه بسببها، فسألني رأيي إن كان بإمكانه أن يرميها من السيارة، أو يخفيها أسفل المقعد، فطلبت منه التروي وإلتزام الهدوء، وإنه ليس هناك ما يستحق القلق.. قلت له ذلك بعدما شاهدت طريقة تعاملهم مع تلك السيدة في السيارة التي سبقتنا، لكن القلق لم يغادره، وبقي يرتجف من شدة الخوف!
توقف أمام الباب الجانبي للسيارة أحد رجال الدولة الإسلامية، وكان شاباً في العشرينيات من العمر..
كان هادئاً بشكل غريب، والإبتسامة لا تفارق محياه.. بدأنا بالسلام، دون أن يطلب منا النزول من السيارة، كما فعل مع السيارة التي سبقتنا، ثم سألنا إن كان هناك من يحمل السجائر، حتى قبل أن يسألنا عن هوياتنا التعريفية، أو عن وجهتنا.. إزداد توتر الشاب الذي يجلس بجانبي، وكان يكتفي بالنظر إليّ، ولا يعرف بماذا يجيبهم، فهم لا يفتشون أحداً، مكتفين بالسؤال، لكن الخوف كان قد اطبق على الشاب، فبادرت بالإجابة نيابة عنه:
وهل من عقوبة لمن يحمل!؟
فرد عليّ مبتسماً:
لا عقوبة على ذلك، إن سلّمها طوعاً!
فأجبته:
نعم عندنا سجائر، لكن علبة واحدة.. بهذه الصيغة أجبته، فرد عليّ والإبتسامة لا تغادر محياه، بعدما ظن أنني من يحملها:
اعطني إياها غفر الله لك!
فطلبت من الشاب الذي كان يجلس بجانبي إخراج علبة السجائر، فسلمها لي ويده ترتجف من الخوف، فنظر إليّ رجل الدولة الإسلامية الشاب مستغرباً أن غيري من كان يحملها، في حين إنني كنت المتحدث بالنيابة..!
أمسك رجل الخلافة علبة السجائر بيده، ثم ضغط عليها بيديه بقوة، قبل أن يتجه إلى برميل صغير كانت تشتعل فيه النار على مقربة من الطريق، فرمى فيه علبة السجائر، لكنه عاد ليسأل الشاب إن كان يحمل المزيد في حقيبته فنفى الشاب إمتلاكه غير تلك العلبة، ومصداقاً لقوله طلب من رجل الدولة الإسلامية تفتيش حقيبته، لكن الأخير أجابه أنه ما من داعٍ لتفتيشه لأنه يثق بصدقه، لكنه طلب منه الترجل للحديث معه قليلاً!
ترجل الشاب من السيارة، بعدما تغيّر لونه من شدة الرعب، فأمسكه جندي الدولة الإسلامية من يده، وأخذه لمسافة بضعة أمتار عن السيارة، فتبعتهما بدوري، فطلب مني رجل الخلافة العودة ليحدثه لوحده، فذكّرته بالعهد وبالأمان الذي منحه له قبل إخراج علبة السجائر، فتبسّم ثانية وقال لي:
أنا على عهدي، لكن يا أخي، موجهاً الخطاب لي، كيف لشاب مسلم أن يحفَّ حاجبيه كالنساء هكذا، فراح يُذكّره بحديث الرسول، صلى الله عليه وسلم، المتعلق بالنامصة والمتنمّصة، ولعن الله لهما، وبقيت استمع، مع الشاب، لحديث ذلك الجندي الذي كان يذكره بعاقبة ذلك، وإنه لن يعاقبه على ذلك، لكنه يُذكّره بلعن الله لمن يفعل، ثم أخذ يربت على كتفه قائلاً له:
لا تكررها، فأنت شاب ورجل، وهذا الفعل لا يليق حتى بالنساء، فكيف بالرجال من أمثالك..!
وعده الشاب أنها ستكون المرّة الأخيرة التي يَحفُّ فيها حاجبيه، مبيناً له عدم معرفته بالجوانب الشرعية في هذا الموضوع، فأجابه، بأن عليه أن يَعِدَ الله، سبحانه وتعالى، لا أن يَعِدَ عباده، فأكد الشاب إنه سيلتزم بهذا الوعد ما دام ذلك الفعل يخالف شرع الله، سبحانه وتعالى، ثم سلّم رجل الدولة الإسلامية على ذلك الشاب سائلاً الله له الثبات على وعده، ثم طلب منه العودة إلى مكانه، فعاد الشاب وأساريره وقسمات وجهه تتهلل من شدة الفرح!
عدنا إلى قرب السيارة، وكان في بالي كلام ذلك الرجل الذي كان ينصحني بعدم إظهار جواز سفري الأجنبي أمام سيطرات ونقاط تفتيش الدولة الإسلامية، وإلا فإنهم سيقطّعونني إرباً إرباً، كما كان يقول لي، لكنني قررت خوض أولى المغامرات المُهلِكة، كما يراها البعض، فاتجهت إلى نفس الرجل، الذي كان يتحدث مع ذلك الشاب، ووضعت يدي على كتفه الذي كان يعلق عليه بندقيته، ثم سحبته لبضعة أمتار عن السيارة التي كنا نقف بجوارها، والتي كان بقية عناصر نقطة التفتيش يتحدثون مع بعض ركابها، فقلت له:
هل هناك نقاط تفتيش أو سيطرات للشيعة أو البككا أو البيشمركة أو النصيرية سنمر بها في طريقنا إلى الموصل، فأجابني وإبتسامته متواصلة لم تفارق قسمات وجهه:
إطمئن، لو سرت بعد نقطة التفتيش هذه آلاف الكليومترات من هنا فلن تجد لهم أثراً، بحمد الله تعالى ومنّه وفضله، فلا وجود إلا للدولة الإسلامية ولرجالها ومسلميها!
ثم تطرقت إلى أخطر تساؤلاتي:
يا حاج، انا جئت من الخارج، وانوي الدخول إلى أرض الخلافة، فما المطلوب مني من أوراق أو إثباتات ليكون دخولي شرعياً إلى أرض الدولة الإسلامية؟!
فأندهش أول الأمر لسؤالي، ثم سألني رؤية جواز سفري، فناولته إياه، ثم ألقى عليه نظرة، قبل أن يرفع عينه عليّ مخاطباً إياي بالقول:
أولستَ مسلماً؟!
اجبته:
بلى!
قال:
اتشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله؟!
اجبته:
نعم، بفضل الله!
فردّ علي:
إذن لن تحتاج لجواز سفرك هذا، ضعه في جيبك، فجواز سفرك إلى دولة الخلافة شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فهي كل ما تحتاجه للدخول إلى أرض الخلافة!
اغرورقت عيوني بالدموع، وأنا أرى جواز سفري، الذي يحلم به الكثير من الناس، لا يساوي عندهم شيئاً، أمام جواز المرور الإلهي المحمدي الذي سنّته دولة الخلافة لرعاياها من المسلمين، فشعرت بالعزة، بل شعرت إنني في حلم لا أريد الإستيقاظ منه، حلمٌ لم يوقظني منه إلا ذراعي رجل الدولة الإسلامية التي شبكها حولي، وهو يعانقني، قائلاً لي:
مرحباً بك في أرض الخلافة!